ملخص المقال
الإمام الشافعي علَّامة لا يستطيع إلا أن يكون متقنًا، نعرفه متقنًا كفقيه، ولكنه كان متقنًا كذلك في علوم شتى، ومهارات متعددة.
الإمام الشافعي علَّامة لا يستطيع إلا أن يكون متقنًا، نعرفه متقنًا كفقيه، ولكنه كان متقنًا كذلك في علوم شتى، ومهارات متعددة. قال الذهبي: أَقْبَلَ الشافعي عَلَى الرَّمْيِ حَتَّى فَاقَ فِيْهِ الأَقْرَانَ، وَصَارَ يُصِيْبُ مِنْ عَشْرَةِ أَسْهُمٍ تِسْعَةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى العَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِ فَبَرَعَ فِي ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الفِقْهُ فَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ.
كانت طفولته أشبه بطفولة أبناء الصحابة: من ناحية الأهداف والوسائل؛ فهي جادَّة إلى أبعد درجة، وبعيدة تمامًا عن الترف، وقد استخدمت فيها الوسائل الشرعية الجميلة التي كان يعتمد عليها الصحابة في تربيتهم لأبنائهم. شخصية بهذا الثقل تحتاج إلى دراسة عميقة، خاصة أنها نشأت في ظروف صعبة.
أصل الشافعي
الشافعي هو أشرف الأئمة الأربعة نسبًا؛ إذ أنه مطلبي قرشي، من نسل المطلب بْن عَبْدِ مَنَاف أخو جدِّ النبي ﷺ هاشم، وهو يلتقي بذلك مع الرسول ﷺ في عبد مناف بن قصي، وأمه أزدية، واسمه مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بن هَاشم بن الْمطلب بْن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ، وينسب إلى جدِّه الثالث شَافِع بْنُ السَّائِب، وهو من صغار الصحابة، وجدُّه الرابع السائب مختلف على إسلامه، فقد يكون لذلك نُسِب للجد الأعظم، وهو شافع، ولد في غزة عام 150هـ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله، وَمَاتَ أَبُوْهُ إِدْرِيْسُ شَابًّا والشافعي ابن سنتَيْن.
كانت أمه حكيمة مثل أم الإمام مالك، وكذلك ابن حنبل، خافت على نسبه، فأخذته إلى مكة. قالت أمُّه: الْحَقْ بِأَهْلِكَ فَتَكُوْنَ مِثْلَهُمْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى نَسَبِكَ، فَجَهَّزَتْنِي إِلَى مَكَّةَ، وقد حرصت على تعليمه مع فقرها الشديد، وساعدها الشافعي في ذلك بتفوُّقه. قَالَ الشَّافِعِيَّ: كُنْتُ يَتِيْمًا فِي حَجْرِ أُمِّي، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَا تُعْطِينِي لِلْمُعَلِّمِ، وَكَانَ المُعَلِّمُ قَدْ رَضِيَ مِنِّي أَنْ أَقُوْمَ عَلَى الصِّبْيَانِ إِذَا غَابَ وَأُخَفِّفَ عَنْهُ.
وقال الشافعي: كنت وأنا في الكُتَّاب أسمع المعلم يلقِّن الصبيَّ الآية فأحفظها أنا. ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يَفْرغَ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى. فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئًا.
أم الشافعي قد وجَّهته للعلم الشرعي. قَالَ الشَّافِعِيَّ: حَفِظْتُ القُرْآنَ، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِيْنَ، وَحَفِظْتُ المُوَطَّأَ وَأَنَا ابن عشر. وقد صبرت مع ابنها على الفقر، ولم تدفع ابنها للعمل وهو طفل كما تفعل الكثير من الأسر الفقيرة. قال الشافعي: فَصِرْتُ (في مكة) إِلَى نَسِيْبٍ لِي، وَجَعَلْتُ أَطْلُبُ العِلْمَ فَيَقُوْلُ لِي: لاَ تَشْتَغِلْ بِهَذَا وَأَقبِلْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، فَجُعِلَتْ لَذَّتِي فِي العِلْمِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَكُنْ لِي مَالٌ وَكُنْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي الْحَدَاثَةِ، وكُنْتُ أَكْتُبُ فِي الأَكتَافِ وَالعِظَامِ، وَكُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الدِّيوَانِ أَسْتَوْهِبُ الظُّهُورَ فَأَكْتُبُ فِيهَا.
أم الشافعي أيضًا تركته يخرج إلى البادية ليتعلم اللغة، قال الشافعي خرجت من مكّة فلزمت هذيلًا في البادية أتعلّم كلامها وآخذ طبعها -وكانت أفصح العرب- فبقيت فيهم سبع عشرة سنة أرتحل برحلتهم وأنزل بنزولهم. فلمّا أن رجعت إلى مكّة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيّام العرب.
وقال البعض عشر سنوات، زاد آخرون فجعلوها عشرين، وأعتقد أنها أقل من عشر، وقد تكون خمس فقط؛ لتستوعب حياته الفترات الأخرى التي قضاها في مكة، ولاحقًا بالمدينة. قال الأصمعي: صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له: محمد بن إدريس الشافعي.
قال أبو الوليد بن الجارود: كان يقال: إن محمد بن إدريس الشافعي لغة وحده، يحتج به كما يُحتج بالبَطْنِ من العرب. وقال «الجاحظ»: نظرت في كتب هؤلاء النَّبَغَة الذين نبغوا فلم أر أحسن تأليفًا من المُطَّلِبِي، كأن فاه نظم درًّا إلى درّ. وقال المُبَرِّد (أبو العباس صاحب المدرسة اللغوية العظيمة مدرسة البصرة): رحم الله الشافعي؛ فإنه كان من أشعر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات. وقال أبو عثمان المازني: «الشافعي عندنا حجة في النحو».
وقال «الربيع بن سليمان»: لو رَأَيْتَ الشَّافِعِيَّ، وَحُسْنَ بَيَانِهِ، وَفصَاحتِهِ لَعَجِبْتَ، وَلَوْ أَنَّهُ أَلَّفَ هَذِهِ الكُتُبَ عَلَى عَرَبِيَّتِهِ الَّتِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعَنَا فِي المُنَاظَرَةِ، لَمْ نَقْدِرْ عَلَى قِرَاءةِ كُتُبِهِ لِفَصَاحتِهِ، وَغَرَائِبِ أَلفَاظِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ فِي تَأْلِيفِهِ يُوَضِحُ لِلْعَوَامِّ. وقال الحسن بن محمد الزعفراني: كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا، ويجلسون ناحية، فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي. وقَالَ مُحَمَّد بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: الشَّافِعِيُّ فَيْلَسُوفٌ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: فِي اللُّغَةِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَالْمَعَانِي، وَالْفِقْهِ.
وفي هذيل تعلم الشافعي الرماية والفروسية، قَالَ عَمْرُو بنُ سَوَّادٍ قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ نَهْمَتِي فِي الرَّمْيِ وَطَلَبِ العِلْمِ فَنِلْتُ مِنَ الرَّمْيِ حَتَّى كُنْتُ أُصِيبُ مِنْ عَشْرَةٍ عَشْرَةً وَسَكَتُّ عَنِ العِلْمِ، فَقُلْتُ: أَنْتَ، وَاللهِ فِي العِلْمِ أَكْبَرُ مِنْكَ فِي الرَّمْيِ، وقال الربيع: كان الشافعي أشجع الناس وأفرسهم.
ثم عزم الشافعي على العودة إلى مكة، وكان سِنُّه تقريبًا 15 سنة، وتوجّه إلى الفقه، والتعلم على يد مسلم بن خالد الزَّنجي مفتي أهل مكة وفقيهُها في زمانه، وقد نبغ في الفقه ولفت الأنظار: قال الحميدي: قال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتى، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقال غيره: وهو ابن ثماني عشرة سنة.
وقد نبغ أيضًا في صوته الرائع: قال بحر بْن نَصْر: كنّا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتّى يتساقط النّاس ويكثر عجيجهم بالبكاء من حَسَن صوته، فإذا رأى ذَلِكَ أمسك عَنِ القراءة. كان لابد لهذا التفوُّق أن يكون دافعًا لتطوُّر جديد؛ فكان الذهاب إلى المدينة[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك